تبادل إضفاء الشرعيات

توجان الفيصل
03-02-2012
الجزيرة

من أعجب ما صرح به محمود عباس وهو يسوّق نفسه مؤخرا كمفاوض صلب ممانع, قوله: “أقول للعالم إن الاستيطان وتصرفات المستوطنين أمور غير شرعية،  لكنني أبدًا لا أقول لهم إن إسرائيل غير شرعية” وهو أمر لو قُبل أنه صدر عن ممثل للشعب الفلسطيني, فسيعني أن كل الفلسطينيين الذين قتلوا على يد المسستوطنين الصهاينة منذ وطئوا أرض فلسطين, ومن قتلهم بل وأعدمهم البريطانيون أيضا, ليسوا شهداء ولا مناضلي حرية, بل هم ومعهم كل من هُجّر وشُرّد واعتُقل وعُذّب من الفلسطينيين على امتداد ما يقارب القرن, مجرمون تعدّوا على أصحاب الحق الشرعيين في أرض فلسطين, فنالوا عقابهم. ولهذا لا يُستغرب أن يتضمن ذات تصريح عباس الذي أخذنا منه إسباغه الشرعية على الكيان الصهيوني, قوله إنه لا نية لديه للتوجه لمحاكم دولية لعقاب إسرائيل على جرائمها في غزة, قائلا إن “هذا التوجّه لم يتم بحثه حتى الآن”.

لهذا, ودونا عن كل أحاديث وأفعال عباس, سنتوقف اليوم عند “الشرعية” في تعريفاتها وأصولها السياسية والتاريخية والقانونية,لنبين حقيقة ما يتوفر منها لطرفي ما يسمى بعملية “التفاوض” على أرض فلسطين.


ونبدأ بشرعية مجيء محمود عباس لرئاسة السلطة. فبعد مرور ثلاث سنوات من رفض ياسرعرفات التوقيع على اتفاقية الحل النهائي في كامب ديفد 2, جرت محاولة تقليص صلاحياته الرئاسية باستحداث منصب رئيس وزراء بدون لقب “دولة” بالطبع. وبالفعل نقلت أهم الصلاحيات الأمنية من عرفات لرئيس الوزراء الذي جرى فرضه بشخص محمود عباس.

لم يجر في تاريخ البشرية أن عيّن محتلٌّ حكومة بهذه الطريقة ليزعم بأنها تفاوضه, سوى “حكومة فيشي” في فرنسا, والتي أوجه الشبه العديدة بينها وبين سلطة عباس تؤكد أن استنساخا جرى للتجربة.ولعدم وجود أية قاعدة شعبية لعباس وبالتالي عدم تعاون أحد معه, فقد فشل واضطر للاستقالة بعد تسعين يوما. فجرى التمهيد لتوليه رئاسة السلطة بإخلائها بما لا يقل عن قتل عرفات بالسم، وهو أمر بات معروفا للقاصي والداني. عندها سُمح لرئيس السلطة الجديد باستعادة الصلاحيات التي نزعت من عرفات, بدل أن تترك لرئيس الوزراء المنتخب هذه المرة. ولم يكف هذا عباس أو من جاؤوا به, بل هو قام بعزل رئيس الحكومة المالكة لأغلبية برلمانية, وعين محلّه نائبا لا يملك في المجلس التشريعي غير المقعد الذي أُُجلس عليه. وتولى عباس وإسرائيل شل السلطة التشريعية المنتخبة بقيام الأخيرة باعتقال رئيسها وعدد من نواب الأغلبية الحمساوية فيها, بينما علّق الأول جلساتها بهذا العذر وبافتعال معارك وصلت حد مؤامرة دحلان في غزة, التي استبقتها حماس بانقلابها المعروف.

فمثلا: فلسطين كما فرنسا قسمت لقسمين, أحدهما تحت الحكم العسكري للمحتل النازي والثاني تحت حكم ذاتي صوري. وجيء برئيس (بيتان : عباس) يتملّك السلطتين التشريعية والتنفيذية ويغير (الدستور: القانون الأساسي). والأهم أنه جرت ذات محاولة مسخ ذاكرة الفرنسيين باستبدال شعار الثورة الفرنسية “حرية, مساواة, أخوة”, بشعار مقزّم هو “العمل, الأسرة, الوطن”. يقابلها حملة لسلطة عباس أسوأ من أي مما جرى في فرنسا, لنزع سلاح ومطاردة المقاومة الفلسطينية بكل فصائلها بقوات “دايتون” المستحدَثة لهكذا أغراض. حملة متواكبة مع طرح حكومة فياض, بديلا للتحرير, شعارات تنمية اقتصادية مزعومة شبيهة بشعارت حكومة فيشي تلك. مع أن الاحتلال يواصل دوريا تدمير أي من البنى التحتية الفلسطينية, إن جرى إنشاؤها.

في حالة كهذه مجربة تاريخيا, لا يجوز أن يُسمح حتى بزعم التفاوض, كون كامل المسرح أعد فقط لاستكمال التسليم ممن لا يملك لمن لا يستحق. فالقول “بشرعية إسرائيل” لا يسقط فقط حقوق الفلسطينيين التاريخية في أرضهم وحقوقهم الإنسانية المترتبة على الكيان الإسرائيلي, بل يسقط أيضا حقوقهم المترتبة على بريطانيا وكامل معسكر الحلفاء. وهذا الحق ورقة ضغط دولية على هؤلاء الحلفاء لها مثيلات وسابقات مارستها شعوب عدة. تفريط طوعي هائل لا يمكن أن يقترفه من يمثل أي جزء, مهما كان يسيرا, من الشعب الفلسطيني.

ونأتي لشرعية إسرائيل التي أفتى بها عباس, لنبدأ بحقيقة أن الشرعية الدينية لا تصلح كأساس سياسي في التاريخ الحديث الذي بدأ في أوروبا بالثورة الفرنسية. فالخروج من “عصور الظلمة” التي تمثلت بحكم ثيوقراطي تحالف فيه الملوك مع الكنيسة التي زعمت أن لهؤلاء الملوك حقا إلهيا في الحكم, إلى ”العصر الحديث”, مرورا بـ”عصر النهضة”, لم يكن ممكنا سوى بالإصرار على مدنيّة الدولة. وهو ما جرى الإجماع عليه بعد أن دفعت أوروبا ثمنا باهظا لحكم الثيوقراط, تمثل في حروب دينية في قمة الفظاعة غالبيتها الساحقة كانت بين طوائف مسيحية (الكاثوليك والبروتستنت) استمرت قرنا كاملا.

ولكن ما بقي من هذا النزاع لأواخر القرن العشرين, وهو النزاع في إيرلندا الشمالية بين البريطانيين والإيرلنديين, والذي بدأ دينيا, تحول هو أيضا لنزاع قومي مع تقدم العصور وتجاوز البشرية مرحلة قبول أي زعم ديني لسلطة سياسية على الأرض. فأصبحت الفاتيكان دولة رمزية على بضعة مبان في روما, فيما قامت كل دول أوروبا الحديثة (ومثلها بقية العالم) على أساس المواطنة لكل سكان تلك الدول التي كانت قُسمت تاريخيا حسب القوميات, والتي هي القسمة الطبيعية التي نشأت بها الدول لأول مرة في تاريخ البشرية.

ومسار التاريخ الحديث مستمر باتجاه تكريس حقوق الأقوام في “تقرير مصيرها”, بمعنى سيادتها على دول تنتظم أراضيها التاريخية وتقرير نوعية الدولة التي تريدها, بدليل إيراده في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وفي القانون الدولي. وآخر الحلول للنزاعات الأوروبية العنيفة, والتي اشتعلت في يوغسلافيا السابقة, قامت على قسمة الدولة “قوميا” وليس دينيا, رغم محاولة غلاة القوميين توظيف الدين لتبرير ما لا يبرر من سادية في التعامل مع الآخر لزعم غطاء إلهي حيث يغيب تماما الغطاء الدولي والإنساني.

وبغض النظر عن كون تعريفات “القوم” أو “الأمة” ليست محددة دوليا بمسطرة جامعة مانعة, إلا أنه حسب بدهياتها المعتمدة بدءا بالأنثروبولوجية وانتهاء بالسياسية السيادية القديمة والمحدثة, فإن الخمس والخمسين جنسية التي اعترف بن غوريون أنه شكل منها العصابات الصهيونية التي جاءت لاحتلال فلسطين, يستحيل أن تقارب أي تعريف لـ”القوم”. وحتى القبول بالأساطير التوراتية الذي يتطوع له عباس, كقوله لرؤساء اللوبي الصهيوني في أميركا إنه “لا ينكر الارتباط التاريخي بين الشعب اليهودي وفلسطين”, لا يمكن أن يتضمن قبول زعم خمس وخمسين قومية ممن لا “رابط تاريخي” من أي نوع يربط آخر جد يستذكرونه بأرض فلسطين.

فالشعب “في اللغة العربية,  (وكذلك تراجمها ومرادفاتها في مختلف لغات العالم) تعني “الجماعة الكبيرة التي ترجع لأب واحد وهي أوسع من القبيلة”. نقولها لتصحيح استعمالات عباس للغة العربية.

والقبول بإدخال كل يهود العالم من مختلف الجنسيات والأقوام في قوائم أصحاب الحق في أرض فلسطين لمجرد أنهم يهود, لا يختلف عن قبول مطالبة أية جماعة وثنية أو من عبدة مظاهر الطبيعة (وهم أكثر من مجمل يهود العالم حقيقة) بكامل الأرض ما بين وادي النيل وبلاد الرافدين (ذات ما تطالب به الصهيونية بزعم حق ديني أيضا), باعتبارها الأرض التاريخية التي نشأت فيها عبادة  مظاهر الطبيعة الأقدم كثيرا من اليهودية, وقبول امتدادات ذات المطالبات لأوروبا التي امتدت لها تلك الديانات القديمة من مصر وسوريا وبلاد الرافدين. سيناريو هزلي غرائبي, ولكنه حقيقة ليس أكثر هزلية وغرائبية من زعم شرعية إسرائيل بناء على أساطير مشابهة.

وأيضا, بغض النظر عن أي كم من “الضغوط الخارجية” (الممنوعة في القانون الدولي), المباشرة وغير المباشرة, التي مورست على أمم وأقوام عديدة في سياق تطبيق مبدأ حقها في تقرير مصيرها, فإن هذه الضغوط لم تصل حد مطالبة شعب بأكمله بالتخلي عن حقوقه في وطنه الأم, فالمصير يتقرر على تلك الأرض ابتداء. والقول بأن الفلسطينيين يمكن أن يوطّنوا في أي جزء من العالم العربي لتبرير ترحيلهم, هو اعتراف بحقيقة أن الفلسطينيين عرب, وبالتالي أن فلسطين عربية.

ولكن في ظل انشغال الشعوب العربية بتفاصيل ربيعها, والأخطر في ظل وجود أنظمة عربية تحاول إنقاذ عروشها بتقديم تنازلات لإسرائيل وأميركا في شأن قضية لم تكن يوما فلسطينية بحتة, بدليل أن الخطر الآتي من إسرائيل يشكل مكونا رئيسا في تحريك أكثر من ربيع عربي. تتبدى ضرورة الربيع الفلسطيني, والذي قد لا تلزمه انتفاضة بقدر ما تلزمه مصالحة حقيقية غير التي جرى زعمها بتبني المقاومة لتنازلات أوسلو.وإذا كانت كل أشكال الضغوط وصولا لجرائم التهجير والتطهير العرقي, مورست على الشعب الفلسطيني بالضد من كل القوانين والأعراف الدولية, وبالضد من مسار التاريخ والبشرية, باستعمال القوة العسكرية القاهرة, والقوة السياسية التي قامت على تزوير إرادات شعوب عربية عدة وقمعها بالوكالة, وليس فقط الشعب الفلسطيني. فإن شتاء تلك المرحلة القارس قد انقضى مع بداية الربيع العربي. وهذا ليس حلم ليلة صيف, كما تحاول الأنظمة العربية الإيحاء لنفسها قبل غيرها, فقد أعرب نتنياهو ذاته في خطابه لقيادات داخل إسرائيل عن تخوفات عميقة من نتائج الربيع العربي.

مصالحة يتوافق فيها الفلسطينيون على إعادة إنتاج “مجلس وطني” منتخب يمثل الفلسطينيين كافة داخل فلسطين التاريخية المحتلة وفي الشتات. فهذا ليس زمن التجديد لمنظمة تحرير توالى تقزيمها ومسخها منذ أوسلو بحيث وضعت (بل ونزعت) سلاح التحرير نهائيا في عهد عباس, وتبنت استجداء ما تجود به إسرائيل التي لم تضع السلاح من جانبها بتاتا, لا لفظيا ولا عمليا.

ثورات الربيع العربي تتوّج انتصاراتها بانتخاب ممثليها الذين سيعيدون صياغة دساتير تعيد للشعوب حق تقرير مصيرها. ومن باب أولى على الشعب الفلسطيني أن يفعل الشيء ذاته ليكون على أهبة في انتظار أخوته العرب.

هذا ليس “زمن”, ناهيك عن أن يكون “لحظة”, التسويات. بل هو زمن خروج الأمة العربية من قمقمها. وما بين الزمن الذي قد يمتد لسنوات, وبين اللحظة التي تكفي للتفريط, فروق هائلة.

 

الرابط للمقال الأصلي

Tagged . Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*

You may use these HTML tags and attributes: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>